نحن وإيران.. هل يمكن تصحيح العلاقة؟

د. محمد الشمري*

اتصفت العلاقة بين العراق وايران خلال العقدين الأخيرين بكونها علاقة معقدة وغير متكافئة، فمن ناحية تتشابك مساحات العلاقة لتتداخل فيها عوامل الأرض والسكان والثقافة والسياسة والدين والمذهب والاقتصاد، كما تختلف، وتتنازع أحياناً، المواقف حيال تلك العلاقة، ابتداءً ممن يراها علاقة وثيقة، تصل لتكون علاقة عضوية، وصولاً الى من يراها علاقة قائمة على الاستغلال، وتحكمها مواقف تاريخية سلبية وأحقاد متوارثة، وعزز من هذا التباين في المواقف ما ينظر إليه أنه عدم تكافؤ بين الطرفين، وتحديداً بعد عام ٢٠٠٣، حيث مارست ايران، الدولة المحورية في منطقة الشرق الأوسط، تأثيراً غير مسبوق في الشؤون العراقية، في مقابل ضعف كبير في قدرة الدولة العراقية، ليس على التعامل مع ذلك التأثير فحسب، وإنما مع غيره من التأثيرات الخارجية، ناهيك عن ضبط التفاعلات الداخلية.

ان ذلك التعقيد واللاتكافؤ انعكس على النظرة الداخلية والخارجية للدولة العراقية، وبات معها طيف واسع من العراقيين يرون في تلك العلاقة واحداً من عوامل التراجع في أداء مؤسسات الدولة العراقية بفعل التأثير الإيراني في النخب السياسية العراقية، وبالمقابل ترى دوائر قرار إقليمية ودولية مؤثرة أن العراق يقع تحت النفوذ الإيراني بشكل شبه كامل. وسواءً صحت تلك النظرة، أو كانت مبالغ بها، أو تدفع باتجاهها حسابات سياسية، فإن الانطباعات المتكونة لدى دوائر القرار والنخب والمجتمعات أضافت تعقيداً اضافياً للعلاقة، مما زاد من كوابح الانطلاق في تطوير العلاقة، والاستفادة من مخرجاتها.

ينظر صانع القرار الايراني الى العراق بوصفه يمثل منطقة الاهتمام ذات الأولوية للأمن القومي الإيراني، فالنسبة الأكبر من التهديدات التي تعرضت لها إيران كان مصدرها العراق، سواء ارتبط ذلك بالصراع الإقليمي، أو النفوذ الدولي، أو التفاعلات التي تجري داخل العراق. ومن ناحية أخرى، تلعب الدوافع الأيدولوجية دوراً اساسياً في السلوك الخارجي الإيراني تجاه العراق، فايران تشترك مع الأغلبية من سكان العراق في الانتماء للمذهب الشيعي الاثنا عشري، وحيث أن الأيدولوجيا التي يستند عليها النظام ترتكز على عالمية الثورة الإيرانية، فمن الطبيعي أن يمثل العراق ركناً اساسياً في حركة تلك الثورة، مدعوماً بالقرب الجغرافي للعراق الذي يمتلك أطول حدود مع ايران. وبالإضافة الى ذلك، فإن الفرص الاقتصادية التي يوفرها العراق أصبحت تمثل دافعاً آخر للاهتمام به، سيما في ظل الضغط الاقتصادي الذي تعاني منه إيران.

ان الاهتمام الإيراني بالعراق ليس وليد إدراك مرحلي، وانما هو حصيلة تاريخ طويل من الصراعات والنفوذ الذي انخرطت فيه إيران في أو مع العراق، وبالتالي فإن أي نظام سياسي حاكم في إيران سوف يسعى الى تحقيق ذات الأهداف، مع اختلاف الأدوات، وهو ما نجده واضحاً عند المقارنة بين السلوك الإيراني في عهدي الشاه والجمهورية الإسلامية.

وبذات الاتجاه، يمكن تلمس أن السلوك العراقي تجاه إيران حكم بدوافع داخلية، ارتبطت في السابق بالموقف الذي اتخذه النظام تجاه إيران انطلاقاً من اعتبارات تاريخية وأيدولوجية، وبعد ٢٠٠٣ حكمته اعتبارات مختلفة افسحت المجال لبروز التناقضات في ظل التعددية التي اتسم بها النظام السياسي. فالشيعة بقوا متمسكين بفكرة أن إيران تمثل أهمية حيوية بالنسبة لهم، مهما كان طبيعة النظام الموجود هناك، فالقلق التاريخي لدى الشيعة من كونهم اقلية في منطقة ذات اغلبية سنية، جعلهم يبحثون عن تعزيز قوتهم بالدعم الإيراني، وتبلور ذلك في الصفة التي يكاد الشيعة يتفقون حولها، وهي العمق الاستراتيجي، وهذا الادراك يحكم بعمق طريقة تعاطيهم مع إيران.

من ناحية أخرى، يدرك الكورد أن إيران تاريخياً تمتلك القدرة على التأثير في أمنهم، سواء أكان ذلك بسبب الجوار الجغرافي مع مناطقهم، أو بسبب طبيعة العلاقة التاريخية بين القيادات الكوردية وإيران، بالإضافة الى الامتداد الديمغرافي للكورد بين العراق وإيران، لذلك فهم حتى في حركتهم لتوثيق علاقاتهم مع الغرب، يراعون أهمية عدم استفزاز إيران. وقد ظهر ذلك جلياً في عدة مواقف، منها تشكيل الحكومات المتعاقبة في بغداد، وحين هددت داعش باجتياح أربيل، وكذلك ما حصل بعد الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان.

أما بالنسبة للسنة، تبدو المسألة أكثر تعقيداً، ففي حين تؤثر التراكمات التاريخية والمواقف الإقليمية، سيما العربية، في تشكيل ادراكهم لإيران، تدرك القيادات السياسية السنية كذلك أن مراعاة العلاقة معها هي بوابة أساسية لضمان النفوذ، عبر قدرتها على الضغط على الأطراف الشيعية الممثلة للأغلبية، وكذلك، بعد الحرب على داعش، الوجود المباشر للفصائل الشيعية في المناطق السنية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤمن تلك القيادات بأن الوضع في العراق تحكمه توازنات إقليمية ودولية يضيق معها هامش الحركة في التعاطي مع النفوذ الإيراني.

في ظل هذا التعقيد، اتسم السلوك السياسي العراقي تجاه النفوذ الإيراني بالضعف والتردد بتأثير قوة ذلك النفوذ من جهة، والموقف الشعبي الساخط على مجمل الأداء السياسي، بضمنه الدور الإيراني، من جهة أخرى، وبالتالي لم تتمكن مؤسسات الدولة العراقية من تبني موقف واضح ورؤية حاسمة تجاه كيفية التعامل مع إيران، وانقسمت الاتجاهات بين من يدعو الى الانضمام الى المحور الذي تتزعمه ايران في المنطقة، وبين من يدعو الى مواجهة النفوذ الإيراني بكل الوسائل المتاحة ضمن منطق المواجهة، وعلى غرار سياسة النظام البعثي السابق.

ومما عزز من غياب الوضوح هذا طبيعة السلوك الإيراني في العراق، فكون الأولوية الأمنية مثلت محور ذلك السلوك لفترة طويلة، فقد تميزت إدارة الملف العراقي بكونها ذات طبيعة أمنية، ترجح بناء الصلات التي تسهم في دعم تلك الأولوية. وهذا التوجه كانت له فوائد مهمة خلال فترات المواجهة مع الإرهاب، وصولاً الى الانتصار في المعركة ضد داعش، حيث يرى كثير من العراقيين أن الدعم الإيراني مثل عنصراً اساسياً في تحقيق النصر.

ان التحولات التي يشهدها العراق خلال السنوات الأخيرة، دفعت الى تراجع الأولويات الأمنية والسياسية والأيدولوجية بشكل ملحوظ لدى فئات واسعة من الناس، وذلك لصالح الأولويات الاقتصادية والخدمية، وفي ظل ضعف الأداء الحكومي في هذين المجالين، يتصاعد سخط الناس على الأداء السياسي والنخب المتصدية، وبالتالي يتصاعد مستوى الرفض للدور الإيراني في العراق، الامر الذي عززت منه بعض التصريحات لمسؤولين إيرانيين استفزت العراقيين، وزادت القلق من الطموحات الإيرانية في العراق.

ان أية مقاربة تسعى الى تصحيح العلاقة بين الطرفين ينبغي أن ترتكز على حقيقتين أساسيتين: الأولى أن إيران ستنظر دائماً للعراق كأولوية في سياستها الخارجية، ومهما كان شكل النظام الحاكم فيها، حيث تتصف العناصر الجيوبوليتيكية والعقائدية والأمنية التي تحكم ذلك الادراك بثبات عالي. والثانية أن البيئة العراقية تتصف بكونها شديدة الميل الى التغيير، وهو ما يجعل الادراك العراقي لإيران متغيراً ايضاً، وهو ما يستلزم التكيف والتعامل مع ذلك الادراك كما هو، دون محاولة التأثير في تشكيله، الامر الذي لم ينجح طيلة الفترة الماضية.

وهناك ثمة عناصر إيجابية للإدراك العراقي لإيران يمكن البناء عليها في تطوير سياسة إيرانية فاعلة في التعاطي مع الشأن العراقي، منها الدعم الأمني للعراق اثناء فترة الحرب ضد داعش، والذي ذكرناه سابقاً، وكذلك الاعتقاد بأن ايران نجحت في إدارة ملفاتها الاقتصادية في ظل الضغط الدولي معتمدةً على امكانياتها في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو ما يتطلع العراقيون الى تحقيقه في العراق، وكذلك اعجاب العراقيين، بضمنهم كثير من المناوئين لإيران، بالفن والادب والثقافة والصناعات اليدوية الإيرانية، وايضاً التقدم الذي تشهده ايران في المجالات العلمية والأكاديمية، رغم أن ما يصل هو المستويات الأقل من طموحات النخب العراقية، سيما في مجال الفرص الدراسية. كل تلك الأمور وغيرها تمثل عناصر يمكن للسياسة الإيرانية توظيفها بديلاً للتمظهر الأمني الذي يطبع سلوكها في العراق.

في مقابل ذلك، تبدو خيارات العراق محدودة في ظل الظروف الراهنة، حيث ما لم يتحقق الاستقرار السياسي عبر معادلة متوازنة للحكم، يصعب أن نرى سياسة خارجية واضحة ومتفق عليها حيال إيران. إلا أن هناك مبادئ يمكن الاتفاق عليها، تمثل الحد الأدنى، وتلتزم الحكومات بها، دون مبالغة أو تهاون، وهي في الأساس: أننا لن نكون عدواً لإيران، وأننا نريد اقصى استفادة مما يمكن أن تنتجه العلاقة من فوائد، وأننا نتفهم ونراعي هواجسها الأمنية، وأننا لا نسمح بأن تتدخل في شؤوننا الداخلية، وأننا نسعى عبر الحوار الصريح الى معالجة المشاكل العالقة. ويمكن أن يفصل ذلك باتفاقية شاملة بين البلدين تقدم قيم التكامل والتعاون والاحترام المتبادل.

إن أية جهود لتصحيح العلاقة بين البلدين، والانطلاق بها نحو المستقبل، تستلزم توافر إرادة سياسية حقيقية، في حين انها يمكن أن تتوفر ايرانياً، فإنها عراقياً تحتاج الى اتفاق حد أدنى، يمنح الحكومة العراقية وضوحاً وتفويضاً حاسماً بالتعامل مع تفاصيل العلاقة، وهو ما يوفر قدرة على إدارة التعقيد في العلاقة، ويعالج تدريجياً مشكلة اللاتكافؤ، ودون ذلك ستستمر العلاقة بكونها غير مستقرة، وعرضة للتقلبات، وهو ما لا يصب في مصلحة إيران أو العراق.

*د. محمد الشمري/ اكاديمي، رئيس مؤسسة سومر للشؤون الدولية