الدبلوماسية المشفرة: الطقوس السياسية في المراسم والبروتكولات

د. ياسر عبد الحسين  – باحث اكاديمي ودبلوماسي عراقي

ما عادت طقوس البروتكول الدبلوماسي اليوم مجرد مراسم تقليدية تتعلق بالاتيكيت الخاص بقواعد العمل الدبلوماسي، وشؤون الدولة الخارجية المتمثلة بقواعد وانماط واعراف تسيير العلاقات الدولية مع الشخصيات والممثلين الدوليين، بل تحول الى جهاز حضاري ثقافي يطلق الرسائل المشفرة، بل يحمل DNA القائد السياسي وهوية وروح البلد وكل عبق التراث الدبلوماسي للدولة، والقفاز المخملي لقوته الناعمة عبر الاشارات غير المباشرة التي يبعثها ذلك الجهاز، ولم تعد هي تلك الحركات التي  يحويها ذلك الكتاب القديم التي اصفرت اوراقه في اورقة الخارجيات والبعثات الدبلوماسية، وباتت ترتكز الدبلوماسية المشفرة على عادات الشعوب وثقافاتها ونبضها الحضاري وهي تنعكس على مراسم الاستقبال والطعام والتحايا وغيرها، وبالتالي فهي اليوم اكبر من مجرد مدونة دولية لبعث رسائل الاحترام الأنيقة والمؤدبة لكل الاطراف، في اوقات السلم والحرب، كما يقول الدبلوماسي الفرنسي (جول كامبون) بإن البروتوكول لا يعرف الدول الرابحة والأمم الخاسرة، حتى بالنسبة لدولتين متحاربتين، فإن الاحترام المتبادل أمر لا بد منه، بغض النظر عن ميزان القوى، كما ينصح  أوتو فون بسمارك (كن مهذبا، دبلوماسيا حتى في إعلان الحرب يلتزم المرء بقواعد الأدب).

  • أحداث في المسرح الدبلوماسي

لماذا جلس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون منفصلين على طاولة طويلة يبلغ طولها أربعة أمتار في لقائهم الأخير بموسكو ؟، ولماذا خرق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب البروتوكول الملكي في حضرة الملكة إليزابيث الثانية؟، ولماذا الغى قصر الاليزيه وجبة الافطار للرئيس الايراني السابق حسن روحاني؟، ولماذا لم يتوفر مقعد جلوس لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال اللقاء الذي عقدته هي ورئيس المجلس الأوروبي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة؟، ولماذا وقف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في مكان غير مخصص له في مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون؟، ولماذا اهدى الرئيس بوتين إلى نظيره المصري عبد الفتاح السيسي سلاح كلاشنكوف؟.

التعامل مع المواقف أعلاه في أطار الفعل الانساني المتعمد او الهفوة يأتي في سياقات مختلفة، لكن بشكل عام في عصرنا الراهن يتم العامل مع تلك المواقف بشكل متباين، تارة يكون محط اهتمام الرأي العام والأعلام بشغف ولهفة وترقب وسيل من التحليلات السياسية لتفسير تلك الطقوس في اطار كونها رسائل سياسية غير مباشرة مقصودة، في حين بالمقابل هناك وجهة نظر اخرى ترى بان هذه الطقوس ليس لها تاثير كبير في السلوك السياسي الخارجي للدول، وانها مجرد احداث مرسلة في أكثر الاحيان الى الرأي العام الداخلي لاثبات قوة الزعماء وشخصيتهم، والحالة العامة ان جميع الفواعل الدولية تحترم تلك الطقوس ، لهذا فان الحديث عن الموضوع البروتكولي هو الموضوع الاقل اهتمام في العمل الدبلوماسي، فالحالة الطبيعة ان لكل وزارة خارجية دليل لمراسمها، مبنيا وفق نظام ويستفاليا، رغم ذلك عندما تكون الدبلوماسية على المحك، يمكن أن تؤدي الأخطاء بغض النظر عن كونها غير مقصودة  إلى أزمات، ولكن في أكثر الاحيان تكون نتيجة هذه الزلات الشعر الابيض على مسؤولي البروتكول، فعندما يمس جسد ملكة بريطانيا من قبل الرئيس الامريكي كما حصل في عهد الرئيس ترامب يعد أنتهاك خطير للبروتوكول الملكي البريطاني، لكنه لم يضع الجيشين الأمريكي والبريطاني في مواجهة بعضهما البعض، لكن الاعلام وضع الحادثة في مقدمة أولوياته، حتى أنها طغت على الهدف الرئيسي للزيارة.

  • ما فائدة اللسان الناعم بدون أسنان حادة؟

قد تبدو هذه المواقف والاحداث هي قضايا شكلية وبسيطة وغير مثيرة للأهتمام في عالم العلاقات الدولية مقارنة مع احداث العالم المتلاحقة من صراعات وحروب واوبئة جديدة، لكن هذه التقاليد السلوكية اصبحت مؤثرة بشكل بارز، وتخضع لمجهر التحليل التي قد تفهم من زوايا سيوسولجية هوية الدولة او رؤية صانع القرار لبعث رسائل او تفسيرات سياسية معينة، وأصبحت لا تخلو من مقاصد في علم النفس السياسي وغايات لها ابعادها المكنونة والتي لا ترتقي لتكون مجرد حدث عابر، ووفق بعض المتخصصين في علم النفس التطوري يرون أن ثمة دوافع إرادية ولا ارادية تحفز على بعث الرسائل الخاصة في حالات استقبال الضيوف والقادة، لكنها تبرز بشكل أوضح في المجتمعات المشرقية.

تاريخيا يمكن ملاحظة أن المراسيم البروتكولية التي خطتها الدبلوماسية في العراق القديم كانت تحمل رسائل سياسية، ولم تكن مجرد طقوس عرفية تمارس بالشكل التقليدي، حيث حقق السومريون منتصف الألف الثالث قبل الميلاد تقدما حضاريا في مجال السياسة الخارجية وأدواتها الدبلوماسية، فضلا عن كون اللغة الاكدية هي اللغة الدبلوماسية الأولى في العالم، وحتى ان مراسم فرش البساط الأحمر المخصصة لإستقبال الملوك والزعماء حول العالم عراقية الأصل، حيث البداية كانت في بابل بالعراق القديم بحوالي 550 سنة قبل الميلاد بمراسيم استقبال الملك الإغريقى أجاممنون حيثُ فرش البابليون بساطاً مصنوعاً من الإسفنج البحري الأحمر إمتد من بوابة بابل وحتى بوابة القصر لغرض إستقبال الملك الإغريقي في إحدى الزيارات الدبلوماسية كما يذكر  مارغريت روتن في كتابه عن تاريخ بابل.

ويكفي ان نطلع على حادثة بروتوكولية مهمة نقلها الزميل الدبلوماسي العراقي ثائر طاهر فاضل في بحث منشور له حول (الجذور التاريخية لدبلوماسية العلم والتكنلوجيا والابتكار في بلاد الرافدين واثرها على الحضارة العالمية)، وهي تلك التي قد وقعت بين سفير مملكة ماري، ومسؤول التشريفات والبروتكول في قصر الملك حمورابي بابل، حيث كانت بابل القديمة تجمعها علاقة دبلوماسية مع مملكة ماري وحاكمها زمري ليم، وفي أحدى حفلات الاستقبال الدبلوماسي لممثلي مملكة ماري، ومملكة يامخد التي أقامها قصر حمورابي تمت دعوة سفير مملكة ماري، وكان البروتوكول الدبلوماسي يقتضي في حال المثول أمام الملك يجب إن يرتدي السفراء ملابس محددة يتم تزويدهم بها من قبل مسؤول البروتوكول الدبلوماسي في القصر، وتشير الرواية إلى أن طاقم سفارة يامخد قد استلموا الملابس، أما طاقم سفارة ماري لم يستلم جميع افرادها الملابس عدا السفير واثنين من معاونيه لكن بقية أعضاء السفارة لم يتلقوا الملابس، وبذلك يكون تمثيلهم يقتصر على ثلاثة أشخاص دون حاملي الهدايا فامتنعوا عن الدخول للحفل وطالبوا بتوضيح رسمي من إدارة البروتوكول، فكان عذر المسؤول أن الحفل مخصص فقط للمناصب العليا في السفارة، لكن في المقابل أن طاقم سفارة يامخد كانوا يرتدون ملابسهم بالكامل، على اثر ذلك رفض سفير ماري ما حصل وعده إهانة وسوء نية تجاه مملكة ماري فتحصل المشادة فيغادر ممثلي سفارة ماري، فيما بعد يصل الأمر إلى إسماع حمورابي فيأمر بإرسال الملابس واستقبال طاقم السفارة بأكمله، وبعد حضورهم للقصر يخبرهم حمورابي بأنهم قد تسببوا بالمتاعب وضايقوا من في القصر، وانه فقط من يحدد رؤية من يريد ومتى ما يريد، ومن هذه الحالة نرى ان إدارة البروتكول كانت على معرفة مسبقة بتوجهات وعقيدة حمورابي في السياسة الخارجية التي ترى أن مملكة ماري باتت تشكل أكثر خطورة من كونها حليفا فبعث لهم هذه الرسالة البروتكولية، وانتهى هذا الموقف بقطع مملكة ماري علاقتها مع بابل.

  • البروتكول وقواعد الاحترام

وهكذا على مدار قرون من الممارسات الدبلوماسية، لم يكن على جهاز البروتوكول إظهار الاحترام المتبادل فقط، بل كان يجب أن يكون أيضًا أداة سياسية، وشكل من أشكال قوة الدولة الناعمة وصورة الدولة في الخارج امام  منافسيها، قديما أدى الافتقار إلى تلك القواعد في أوروبا القديمة إلى صراعات خطيرة، مثل النزاع العنيف حول المكان في لقاء مع السفير السويدي في لندن عام 1661 والذي حدث بين حاشية السفير الإسباني فاتيفيل وحاشية السفير الفرنسي ديستان، حيث أمر ملك فرنسا لويس الرابع عشر بمعاقبة السفير الإسباني وجعل سفراء إسبانيا الآخرين يفسحون المجال أمام السفراء الفرنسيين في المستقبل، وإلا فقد هدد بإعلان الحرب، للوهلة الأولى يبدو إن الخلاف بين حاشية وسفيرين لا يقارن بخطر الحرب بين الدول، لكن فرنسا ارادت أستثمار هذا الخلاف البروتكولي لكي تبعث رؤيتها وقيادتها الرمزية على الدول الاوربية الاخرى، وحيث أن النشاط السياسي مستحيل بدون القواعد، لأن السياسة تصبح فوضوية بدونها.

 ولهذا لم يعد مسؤول البروتكول أو المراسم مجرد حافظ لتقاليد الدولة وقانونها المنصوص عليه من ابجديات البروتكول والمراسم لأستقبال القادة او التعامل في مؤتمرات القمة بل حافظ لروح البلاد وتاريخها وهويتها ونمط الرسائل السياسية التي تريد بلاده ايصالها من خلاله، او العكس الحفاظ على تلك القيم التي يراد تجذيرها ويراد من الاخرين الحفاظ على روحها .

ومع تطور الدبلوماسية ومساراتها المتعددة عبر سجل التاريخ، تتطور ادواتها وجهازها الخاص، ويشمل هذا التطور المراسم والبروتكولات التي اصبحت اليوم تحاكي المعايير المجتمعية او الروح الهوياتية الخاصة بالدولة او صانع القرار وشخصيته او طموحه أو رسائله السياسية الخاصة، علماء الأنثروبولوجيا السياسية يرون أن أداء الطقوس أمر بالغ الأهمية لإنتاج السلطة، واحيانا فان هذه الطقوس الثقافية تعكس حوارا صامتا مع الطرف الاخر، وبالتالي باتت تعبر عن ما يمكن تسمية بالدبلوماسية التراثية اي تعبئة الماضي الثقافي والوطني المشترك في تلك الطقوس وتصدير أشكال التعبير الثقافي والرمزي للهوية الوطنية إلى الخارج من خلال الداخل كمصادر للقوة الناعمة، باستخدام الروايات التاريخية، والانتماءات الثقافية والدينية، والعلاقات الأخرى المتجذرة في الماضي الحقيقي والمتخيل، وبالتالي نكون امام مفهوم جديد للبروتوكول اقرب للدبلوماسية المشفرة، فيكفي ان الحراس الستة عشر في قصر اردوغان  الرسمي 16 تمثل الدول التي أسسها الأتراك وأسلافهم ليعبر عن مفهوم العثمانية الجديدة، ودنابيس مادلين اولبرايت المعبرة حين سألها وزير الخارجية الروسي حينها إيغور إيفانوف مشيرا إلى دبوس كانت ترتديه مثل شكل السهم: :هل هذا واحد من صواريخكم المعترضة؟، فقالت أولبرايت: نعم  وكما ترى يمكننا أن نصنعها بحجم صغير للغاية، لذا من الأفضل أن تكون جاهزا للتفاوض.

وغالبا اليوم ما يتم اللجوء إلى الأساليب الإبداعية للبروتوكول لأغراض معينة للتعبير عن تضامن او بعث رسالة تفضيل، مثل ما حصل في مراسم جنازة إمبراطور اليابان هيروهيتو التي تعد حدثًا دوليًا كبيرًا بمشاركة روساء وقادة من جميع أنحاء العالم، وعندما أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق جورج بوش أنه سيحضر، تم طرح مشكلة البروتوكول التقليدي الذي يقضي بأن يكون لرؤساء الدول الأسبقية بحلول تاريخ توليهم مناصبهم، وبما أن بوش قد تولى المنصب لتوه، فإنه سيكون الأصغر في ترتيبات الجلوس، فيما أرادت اليابان ترسيخ علاقاتهم في واشنطن، لهذا كان الحل الذي تم التوصل إليه هو التعامل مع الجنازة على أنها احتفال بحياة امبراطور اليابان وليس كحدث رسمي، وبذلك أُعلن أن رؤساء الدول سيعاملون في المقام الأول بترتيب الدول التي زارها هيروهيتو خلال حياته، نتج عن ذلك وضع الرئيس الأمريكي في مركز الصف الأول لرؤساء الدول الحاضرين، وهكذا باتت رسالة البروتكول رسالة تفضيل.

أو تكون رسالة معاكسة، مثل مشهد المصافحة الدبلوماسية التي تعد من الظواهر الهامة جدا في المسرح الدبلوماسي، وترمز اليد المقدمة على حسن النية والاستعداد للتعاون، ورفض ذلك يُنظر إليه على أنه عكس ذلك، وتجاهل اليد المقدمة إهانة دبلوماسية كبيرة، كما حصل في اتفاقية الجزائر عام ١٩٧٥ بين ايران الشاه والعراق، حيث جرت قصة يرويها الدكتور الدكتور فخري قدوري في مذكراته انه بعد التوقيع إذ ترك صدام حسين مقعده متوجها لمصافحة الشاه ظنا منه أن الشاه سيفعل الأمر نفسه ويلتقيان في منتصف المسافة التبادل التهنئة البروتوكولي، إلا أن الشاه بقي واقفا أمام كرسيه ولم يتحرك خطوة واحدة، واضطر صدام أن يكمل المسافة وحده حتى وصل إلى الشاه وتمت المصافحة، فاعتبر صدام تصرف الشاه نوعا من الإهانة، ولم ينس هذا الجرح الشخصي والرسمي طيلة السنوات التي تلت والتي انتهت الى الحرب لثمانية سنوات.

باتت هذه الدبلوماسية المشفرة تتعدى كونها مجرد وظيفة رمزية، بل جهاز استشعار مرتبط بعيون وفكر ورؤية صانع القرار مع مراعاة دقة ونجاح الترتيبات البروتوكولية، والتى تجعل منها مناسبة لتعزيز العلاقات وإشعار الضيف بأهمية ومكانة شخصه ودولته لدى الدولة المضيفة، فضلا عن الطابع التقديري للعلاقة، وتبقى هناك العديد من الأدوات التي تجعل السياسة الخارجية تعمل بنجاح وفعالية، والبروتوكول الدبلوماسي هو أحد أهم هذه الآليات فمن المستحيل ببساطة تخيل أي نشاط دبلوماسي بدون عمل ذلك الجهاز.