متى تتدخل مرجعية النجف في الأزمة السياسية الراهنة؟

د. محمد الشمري

يشهد العراق منذ اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في ١٠ تشرين الأول ٢٠٢١ أزمة سياسية حادة، وصفها البعض بالانسداد السياسي. وفشلت كل المحاولات التي سعت الى إيجاد مقاربات للحل وسط تعنت مختلف الأطراف، وتمسكها بمواقفها المتعارضة، في وقت يشهد فيه البلد أزمات متلاحقة أمنية واقتصادية واجتماعية وصحية وبيئية، عقدت من المشهد القائم، وزادت التكهنات باحتمالية أن يقود هذا التعقيد الى تفجر التظاهرات واحتمالات العنف واسع النطاق. وفي خضم ذلك كله، تتجه الأنظار الى مرجعية النجف، والتي يعتقد الكثيرون أن بإمكانها التدخل لحسم الأمور، وانهاء الازمة السياسية، وتجنيب البلد مخاطر الانزلاق نحو العنف.

التدخل لحفظ النظام العام

  يرى الكثيرون أن المبدأ الأساس الذي تتبناه المرجعية للتدخل في الشأن العام هو ” حفظ النظام العام”، فمتى ما كان هناك تحول مفصلي أو تهديد جسيم للنظام العام للبلد، نجد أن المرجعية تدخلت الى الحد الذي يضع الأمور ضمن مسارات متوازنة تمنع الانزلاق نحو الفوضى وتهديد أرواح المواطنين، وهو ما له ادلة تاريخية عديدة، لعل أوضحها ما كان بعد عام ٢٠٠٣، ابتداءً من مرحلة تأسيس النظام الجديد ٢٠٠٣-٢٠٠٦، سواء في التعامل مع القوات الأجنبية، أو في اتجاهات الاعداد للدستور الجديد، وانتخاب الجمعية الوطنية، وصولاً الى انتخاب اول برلمان وتشكيل اول حكومة كاملة الصلاحيات.

مارست المرجعية أسلوب النصح والإرشاد عبر مراحل مختلفة دون تدخل، وكانت في أحيان كثيرة تعبر عن غضبها تجاه الأداء السياسي والحكومي، ووصل الحال الى الامتناع عن استقبال السياسيين ورجال الدولة، ولكن في عام ٢٠١٤، وعندما كان البلد يواجه التحدي الأكبر منذ سقوط النظام السابق، تدخلت المرجعية في حالتين: الأولى عندما حصل الانهيار الكبير باستيلاء تنظيم داعش على المدن العراقية، الواحدة تلو الأخرى، ووصل الى مشارف العاصمة بغداد، فاطلقت المرجعية فتوى الجهاد الكفائي، والثانية المكملة، عندما بدا أن الأزمة السياسية وتأخر تشكيل الحكومة الجديدة بعد انتخابات ٢٠١٤ يواجه تعقيداً كبيراً بات ينعكس سلباً على جهود مواجهة تنظيم داعش، فردت على رسالة حزب الدعوة الإسلامية بأهمية اختيار “رئيس وزراء جديد”، منهيةً بذلك احتمالات تخلخل الجبهة الداخلية في ظروف المواجهة والسعي لتحرير المدن.

وابتداءً من عام ٢٠١٦ الى عام ٢٠١٩، وما تلى ذلك، تصاعدت حدة الاحتجاجات الشعبية على سوء الإدارة والفساد المستشريان في البلاد، الأمر الذي بلغ ذروته مع سقوط مئات الضحايا من المدنيين في تلك الاحتجاجات، واختلفت في حينها التقييمات بين من يحمل القوات الحكومية المسؤولية المباشرة، وبين من يتهم جهات غير مسيطر عليها بالتسبب في تلك الاحداث، وعندها تدخلت المرجعية داعيةً الى الاستجابة لمطالب المحتجين، ومحملةً الطبقة السياسية المسؤولية، وصولاً الى دعوة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الى الاستقالة، ممهدةً الطريق لإجراء انتخابات مبكرة في تشرين الأول ٢٠٢١.

 الرسائل، والخطب، والفتوى: آليات للتعاطي مع الشأن العام

 اعتادت الطبقة السياسية في العراق على التواصل مع المرجعية عبر ارسال رسائل مباشرة أو غير مباشرة، تحاول من خلالها شرح رؤاها وتقييمها للمواقف المختلفة، وطلب تبيان الموقف، وفي الغالب كانت النتيجة هي عدم الرد أو الرد بعدم وجود موقف، وهو ما كان يفسر عموماً أن المرجعية لا ترغب بالتدخل، أو في أحسن الأحوال أنها تترك الأمر لمن بيده القرار. وفي حالات أخرى، وتحديداً في التعاطي مع بعض الجهات الدولية، مثل زيارات ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، وزيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، وزيارة بابا الفاتيكان، كانت تصدر بيانات رسمية تتضمن إشارات، وصفت بأنها واضحة، لموقفها من التطورات السياسية، دون أن تنطوي على تدخل مباشر.

 في مقابل ذلك، طالما اعتمدت المرجعية منبر صلاة الجمعة في كربلاء للتعبير عن مواقفها الرسمية أو الضمنية، وشهدت خطب الجمعة القاء رسائل مكتوبة تعبر عن الموقف الرسمي للمرجعية، وهي ترد مكتوبة من مكتب الامام السيستاني، بحسب احمد الصافي وكيل المرجعية. وكان ذروة تلك المواقف هو في اصدار فتوى الجهاد الكفائي في مواجهة تنظيم داعش، وتتضمن الفتوى المستوى الأعلى من الإلزام للمسلمين الشيعة، ليس في العراق فحسب، وإنما في مختلف انحاء العالم، حيث يتمتع المرجع الأعلى الامام السيستاني بأعلى نسبة من المقلدين (الاتباع) الشيعة حول العالم. في حين تتضمن الخطب ايضاً توجيهات عامة، بات ينظر اليها أنها تعبر عن التوجهات العامة للمرجعية، وتنشغل الأطراف المختلفة بتحليلها ومحاولة استنتاج تلك التوجهات منها. هذه الخطب توقفت مع تفشي جائحة كوفيد ١٩، ولم يتم اعادتها رغم عودة صلاة الجماعة بعد زوال خطر الجائحة، ويفسر البعض ذلك بأنه يعبر عن رغبة المرجعية بالتشديد على موقفها بعدم التدخل، وإيجاد مسافة واضحة تفصلها عن التفاعلات السياسية.

  هل ستتدخل المرجعية في الأزمة السياسية الراهنة؟

بالإضافة الى تمسك المرجعية بالمبدأ الذي تتبناه (حفظ النظام العام)، فإن هناك ثمة هواجس تقلل من احتمالية تدخل المرجعية في الشأن السياسي العام، وبالتحديد في الأزمة السياسية الراهنة، رغم التعقيد الكبير في الأزمة، وامتدادها لأشهر طويلة. ولعل في مقدمة تلك الهواجس أن هناك إمكانية لعدم التزام الأطراف السياسية، كلاً او جزءاً بأي موقف قد يصدر من المرجعية، كما حصل في مرات سابقة عندما تصدت المرجعية، من خلال خطب الجمعة، لموضوع الاصلاح ومحاربة الفساد.

ومن ناحية أخرى مثل تزايد الانتقادات الموجهة الى المرجعية بكونها هي من رعت النخبة السياسية الحالية، وكانت الداعم لتأسيس نظام سياسي أصبح عاجزاً عن الأداء، بعملية سياسية أصبحت الازمات المتلاحقة سمتها الأساسية، هاجساً آخر يرتبط بمكانة وهيبة المرجعية لدى الجمهور الشيعي العام. ايضاً فإن من شأن التصدي المباشر للمرجعية في الأزمة السياسية الراهنة أن يرفع توقعات الجمهور من مجرد معالجة أزمة تشكيل الحكومة، الى المسؤولية عن معالجة معضلة الأداء الحكومي، والذي لا يبدو أن المعادلات السياسية والظروف الموضوعية القائمة تتيح تحقيق تقدم فيه على الأقل في المدى المتوسط.

  لذلك يبدو من المستبعد ان يكون هناك تدخل من المرجعية في الأزمة السياسية الراهنة، في ظل المعطيات الحالية، إلا أن هناك اعتقاد سائد بأن المرجعية تراقب الوضع عن كثب، وتقيم إمكانية تدخلها في ظل التطورات، وقد تكون دوافع التدخل ترتبط بحصول تطور على أحد الصعد الثلاثة التالية:

  • تطور الأزمة السياسية الى مواجهة مسلحة بين أطرافها، مما يترتب عليه إراقة دماء المواطنين، وهو ما أصبح يوصف باحتمالات حصول صدام شيعي – شيعي.
  • حصول انهيار أمني كبير، يهدد أرواح المواطنين وسلامة الأماكن المقدسة، على غرار ما حصل عند اجتياح تنظيم داعش للمحافظات العراقية.
  • حصول تطور يهدد استقرار النظام العام للبلد، ويهدد بحصول فوضى واسعة النطاق.

ولغاية اللحظة، لا يبدو أن مسار الأوضاع يحمل إمكانية حصول مثل تلك التطورات، على الرغم من توقع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، سواء منها غير السياسية، أو المدعومة من قبل أطراف سياسية معينة، وبالنتيجة تتحمل الأطراف السياسية المختلفة مسؤولية إيجاد مخارج للأزمات التي يعاني منها الوضع العراقي عموماً، سياسياً، كما في المجالات الأخرى المختلفة.

د. محمد الشمري: المؤسس والرئيس التنفيذي لمؤسسة سومر للشؤون الدولية