الشرق الأوسط: ملامح تنافس جديد

في عالم يتسم بالمنافسة والتشابك يكون من الصعب الحفاظ على نسق ثابت في البرامج او الخطط وبالتالي التفاعلات، ولا يغيب عن ذلك الشرق الأوسط، تلك المنطقة الجغرافية التي كانت ولا تزال تمثل واحدة من أكثر المناطق تعقيداً على الصعد السياسية والاستراتيجية، وبوصفها جزءاً من العالم، فأن المنطقة تتطلع الى الاستفادة القصوى من فرص النمو التي يمكن تحقيقها تبعاً للإمكانات التي تمتلكها، واهمها الموارد الهيدروكربونية. وفي طليعة المنطقة دول الخليج التي تسعى  الى تحقيق طموحات تنموية كبيرة استناداً الى الرؤى الأستراتيجية التي وضعتها، والتي تجعل منها بالمحصلة الرقعة الأعلى نمواً في العالم، وهو امر متوقع … ولكن بشروط، ويبدو انه من غير الممكن المضي بتحقيق تلك الأهداف مالم تكن هناك شراكات وتفاعلات مع الأطراف الداخلية في المنطقة “التفاعلات البينية” وبينها وبين تلك الدول والقوى الاقتصادية الأعلى نمواً على سبيل المثال: الصين والهند وغيرها من الأطراف.

الصين، الاقتصاد الثاني من حيث الحجم على الكوكب، صاحبة الطموحات الاستراتيجية والتي تريد ان تنهي قرن الأذلال بأن تكون القوة الاقتصادية الاقوى في العالم، وهو امر قابل للتحقق، تتطلع الى ان توازي استراتيجياتها ومبادراتها الاقتصادية بمزيد من الانخراط في القضايا العالمية، منها على شكل شراكات او تكتلات مع مناطق مختلفة في العالم، وفي مقدمتها الشرق الأوسط ودول الخليج … وفي الواقع، فأن للصين شراكات وتفاعلات في المنطقة تمتد الى جوانب اساسية ومهمة في مجالات الاتصالات والبنى التحتية وانظمة الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن قضايا الطاقة والطاقات النظيفة، كما تمتد تلك التفاعلات الى تزويد هذه الدول بالتكنولوجيا العسكرية الحديثة وأنظمة الانذار والرصد.

والشرق الأوسط عبر التأريخ الحديث اثبتَ انه المحطة التي تعكس طبيعة التفاعلات العالمية في المنطقة والأجندات التي تعمل عليها الدول، وهنا لابد من فهم الإطار الاوسع للدور الصيني من الاتفاق الإيراني-السعودي، فالصين، وفقاً لما ذكر، تحولت من مرحلة توطيد العلاقات الثنائية الى مرحلة ان يكون لها دور في تفاعلات المنطقة، هو امر متبوع بمصالح الصين. في المقابل، فأن الانغماس الصيني، الذي خرج عن الأدوار المألوفة في المنطقة، قد ولد قلقاً متزايداً لدى الولايات المتحدة حول الدور الصيني المتوقع، سواء في الوقت الراهن، أو في المستقبل، بوصفه تحدياً للأمن القومي الأمريكي، وللمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل واحدة من أهم مناطق التفاعلات العالمية.

ان طبيعة التفاعلات التي انخرطت الصين فيها تأتي في الوقت الذي اصبحت فيه الولايات المتحدة تواجه تصاعداً في حدة التحديات بالمنطقة، وفي مقدمتها التحدي الإيراني، والتحدي الأمني لإسرائيل، وبروز تحدي جديد هو فتور العلاقات الأمريكية – الخليجية وفي مقدمتها مع دول: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مع العلم أن جزءاً من هذا الفتور كامن في طبيعة القيادتين السعودية والأمريكية، وكذلك عدم ثقة دول الخليج بقدرة وإرادة الولايات المتحدة على حمايتها بوجه التهديدات التي تستهدفها، وهذا ادى الى نتيجتين أساسيتين هما:

الاولى: ان هذه الدول بدأت تتجه الى اجراء ترتيبات توزان في علاقاتها الدولية، بمعنى اخر الانفتاح على قوى دولية أخرى، وتحديداً الصين، والهند، وروسيا.

الثانية: هي ان دول المنطقة في مقدمتها السعودية وصلت الى إدراك مفاده انه لا بديل لها، لحماية امنها القومي، سوى ان تتوصل الى تفاهمات وحلول لمشاكلها مع إيران.

وبينما يواجه الطرف الثاني (ايران) صعوبات اقتصادية بسبب العقوبات الغربية – ادركت انها يجب ان تحل مشاكلها مع السعودية والمنطقة، وهذا الأدراك المتبادل قاد الى حوار افضى الى تفاهمات، هيأت الأرضية للاتفاق، الذي كان بحاجة الى ضامن للألتزام والديمومة فيه. وهنا جاء الوسيط الضامن الصيني الذي تمكن من توفير هذه المظلة التي لم تستطع دول مثل العراق وعُمان توفيرها. وبحكم التعقيد الذي تتسم به طبيعة التفاعلات الدولية واهمية المنطقة للعالم، فأن الجانب الأمريكي قد ابدى ارتياحه للاتفاق في جزءً منهُ، وكان مؤيداً لوصول الطرفين الى هذا النوع من التفاهم وخفض التصعيد في المنطقة، ولكن ليس ان يأتي الأتفاق عبر الصين، لأن الدخول الصيني بهذا الدور يعني حصول انتقالة في الأدوار والمفاهيم التقليدية التي كانت تتبناها الصين، والتي لا تتجاوز البعد الاقتصادي والتنموي، ومن هنا طرحت أفكار امريكية عدة تناقش الدور الصيني الجديد، وخيارات للتعامل مع هذا الدور الصيني، من بينها اشراك قوى دولية حليفة الى الولايات المتحدة وليست على وفاق مع الصين وهي حتماً ستكون القوة الموازية الى القوة الصينية والأقرب من الصين الى الشرق الأوسط وهي الهند.

في الواقع، تتراصف الهند الى جانب الصين في الأستفادة من الشراكات مع منطقة الخليج والشرق الأوسط الى جانب الصين لتمتد الى جوانب أستراتيجية مع دول المنطقة وفي مساحات مهمة منها القضايا الامنية التي ترتبط بأمن الملاحة البحرية والنقل البحري والناقلات ومشاريع البنية التحية، وفيها تبحث الهند  عن دور استراتيجي في المنطقة يتوافق مع الطموحات التي تعمل عليها والواقع الذي تعيشه. وعند توجيه عدسة البحث صوب الهند إلى تلك المنطقة الجغرافية المقابلة للخليج والتي تمتلك اكبر ساحل على بحر العرب، فأنها تمثل نقطة مرور حيوية للنقل البحري لمنطقة الشرق الأوسط والى المضائق البحرية الثلاث: هرمز، وباب المندب، وقناة السويس اللاتي تشغل الفكر الأستراتيجي الصيني في حرية مرور السفن الصينية عبرها. والهند بالرغم من كونها تمثل الأقتصاد السابع من حيث الحجم على الصعيد العالمي، ألا أنها الأن تمثل الحجم السكاني الاكبر في العالم بعدد سكان يتجاوز 1.5 مليار نسمة. ومنذ عام 2009 بدأت الهند تسعى الى رسم استراتيجيات تضمن لها موطئ قدم في المناطق البحرية المهمة في العالم وبالتحديد تجاه منطقة الخليج، الى جانب الأستفادة عبر الاستثمار في اعداد العمالة الكبير المنتشرة في دول مجلس التعاون الخليجي والتي تقدر بـ 9 مليون نسمة، والتي توازي هذه الأعداد غالبية سكان دول مجلس التعاون الخليجي. ولذلك، فالمنطقة لا تمثل مساحة شاردة من المُدرك الأستراتيجي الهندي اذا ما وضعنا بعين الأعتبار أن 55% من التحويلات المالية الى الهند تتدفق من هذه الدول، وأن ثلثا واردات الطاقة الى الهند تأتي من دول الخليج والعراق، كما يهتم المستثمرين من دول مجلس التعاون الخليجي في فرص النمو بالهند من أجل توطين استثماراتهم في مشاريع البنى التحتية الهندية المحفزة لأنتقال رأس المالي الخليجي اليها، والتي تمثل وجهة مرغوبة اليهم اكثر من الدول الأخرى. كما ان لدى الهند علاقات ثنائية مع الدول المهمة في الخليج منها المملكة العربية السعودية واللذان أطرا علاقاتهما من خلال “أعلان دلهي” في عام 2006  والذي يمثل اتفاق قابل الى ان يتحول الى شراكة أستراتيجية بين البلدين كما انه قابل الى جر دول مجلس التعاون الخليجي اليه.

هذا الواقع، وطبيعة التفاعل بين الطرفين الصيني والهندي حفز الطرف الأمريكي الى استغلاله في ايجاد الطرف المعادل إلى الدور الصيني، والطموح الهندي سيفرض على الولايات المتحدة التركيز على القضايا الأقتصادية، وهناك ثلاث امور تمثل تحليلاً أولياً  للدور الهندي يكون من خلال منح الأغراءات الأقتصادية معززة بعناصر القوة السياسة التي تمتلكها الولايات المتحدة في المنطقة، او عبر عقود الشراكة التفضيلية بين الشركات الأمريكية والهندية العاملة في المنطقة والتي تعمل في مجال الطاقة والامداد اللوجستي. والجانب الثاني للأندفاع الهندي سيكون بفعل العامل الأمني المدفوع بأثارة الهواجس او المخاوف الهندية عن الطوق الصيني والتحالف مع الباكستان الى ايران وايضاً الخليج والعراق عبر مبادرة الحزام والطريق، والمبادرات الاقتصادية التي تعمل عليها الصين في تشبيك اواصر قوية لعلاقاتها في المنطقة. اما الجانب الثالث: فهو الثمن من التحالف الامريكي الهندي فهناك ترتيبات بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالصراع على باكستان، وامريكا تعمل على تمييل الكفة بأتجاه الهند وهو ما تريدهُ الهند من الولايات المتحدة في قضية باكستان، وهذا الأمر ناتج منه الى التحالف الباكستاني – الصيني واتفاقات التجارة والنقل “ميناء غوادر”.

الجوانب الثلاث أعلاه تدفع الى نقطة جوهرية عميقة وهو أن يكون جزء من استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في تعاطيها مع الصين في أنها تحفز الصراع الصيني كجزء من أستراتيجية الولايات المتحدة في تصعيد الصراع الهندي – الباكستاني، مقابل تركيز الولايات المتحدة على تطويق الصين من الأقاليم الهندية والمياه الدولية القريبة للتحكم في مسارات حركة النقل من والى الصين، ومن المداخل الرئيسة في هذا الصراع أن الباكستان لم تعد اولوية في المدرك السعودي –الأماراتي خصوصاً بعد انسحابها من الحرب في اليمن في 2015 مما أثر على طبيعة التعاون الخليجي – الباكستاني، مما يعطي للهند جاذبية اعلى لدى السعودية والأمارات. ومن ذلك يكون أستثمار الهند في توزيع الصراعات وفقاً للخارطة العالمية في أن تكون الهند في مواجهة الصين على غرار المواجهة الأوربية للروس في القارة الأوربية. ويترافق هذا الدور الهندي البارز بأنشغال الولايات المتحدة في شؤونها الداخلية والتخفيف من أعباء الصراع الدولي الذي يكلف الولايات المتحدة في المنطقة، وسيكون حقيقة المنطق السائد هو كلما أرتفع النمو الأقتصادي لدى الصين فأنه سيدفعها الى تطوير منظومة أستراتيجية للحماية والتدخل والتفاعل والذي بدورهُ سيحفز الطرف الأمريكي على منح افضليات وأدوار الى خصوم الصين في منطقة تبرز فيها قوى غير حليفة الى الولايات المتحدة كالصين وروسيا وأيران.

واذا امعنا النظر الى بلدان الخليج وكذلك الى العراق فأن هذه الدول تطمح الى تنويع شركائها الأستراتيجيين للأستفادة من مكاسب النمو المختلفة ولتعجيل مسارات التنمية في هذه البلدان لتتوافق مع الرؤى التي وضعتها هذه الدول لأنفسها خلال العقد الحالي، والخليج يستفاد بالفعل من كلا الدولتين “الهند والصين” في شتى الصعد، ولكن في حال احتدام منافسة قريبة على أراضيهم فأنهم ليسوا على أستعداد لخسارة احد الأطراف على حساب الأخر لأهميتهما من نواحي شتى كونهم شركاء تنمويين أستراتيجيين، كما سيضع هذه البلدان في أختبار حساس وحاسم لمصير تلك البلدان.

ومن وجهة النظر العراقية، فأن السياسة التقليدية التي تتبناها البلاد منذ 2014  القائمة على التوازن في العلاقات الخارجية لابد ان تكون الركيزة التي يتم التعامل بها مع هذه التطورات ، أي بمعنى أخر أن لدى العراق مصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع الصين، ومع روسيا، ودول الخليج ومع ايران … فأكبر الموردين للنفط العراقي هما الصين بمعدل 34 مليون برميل شهرياً، والهند بمعدل 28 مليون برميل شهرياً (اكثر من ثلث الصادرات العراقية)، وبالنتجية فأن المنطق يفرض أن يكون معيار المصالح العراقية هو الحاكم في ضبط المواقف وعدم الأنحياز الى اي من الأطراف وبناء العلاقات الايجابية مع الجميع، ويجب ان يشعر الجميع ان لديهم مصالح مع العراق وهذه المصالح محفوظة ومؤمنة ما دواموا يحترمون ويدعمون وحدة العراق وسيادة البلاد.

العراق لابد أن يبني مستوى علاقاته مع الأطراف الدولية بقدر ما تقدمهُ من فرص يستطيع العراق استثمارها لخدمة مصالحهُ العليا التي في مقدمتها استقراره، ووحدة اراضيه، والحفاظ على مكانته الدولية والأقليمية.