في السنوات الأخيرة، كانت علاقة العراق بالدولار الأمريكي موضوعًا للتدقيق الكبير والإجراءات المتعلقة بالترتيبات التنظيمية والسياسية. مسار العلاقة بين الدولار الأمريكي واستخداماته المحلية في العراق تمثل واحدة من النقاط التي أصبحت شديدة التعقيد بين المتطلبات الاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية والسياسية. حتى صارت من الخيوط التي تتأرجح فيها السياسة إلى جانب الاقتصاد. فرحلة الدولار لم تكن لتبدأ منذ عام 2003، وإنما كان النظام السابق يشجع على استخدام الدولار من قبل التجار المحليين بصورة غير رسمية من أجل تحقيق قدر من الاستقرار للأوضاع المعيشية في العراق، وبعد 2003، كانت الولايات المتحدة تعمل على رهن استقرار الأوضاع الأمنية والمعيشية وكسب الرضا من خلال استخدام الدولار، كعملة دولية تعمل على الحفاظ على الاستقرار وكسب الرضا المجتمعي في العراق. منها توزيع المرتبات بالدولار، ومنح المشاريع والتعاقدات بالدولار مما شجع المواطنين بالعراق من استخدامه كعملة ضامنة موثوقة ضد التقلبات والانهيار في قيمتها. إلى جانب ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية الهشة في العراق واعتماده الكبير على الاستيرادات جعل السوق العراقي يعتمد في قدرته الاستهلاكية على مقدار التداول النقدي للدولار وسهولة الوصول إليه.
كان هدف سلطة الائتلاف المؤقتة ووزارة الخزانة الأمريكية هو إعادة إنشاء العملة في أسرع وقت ممكن، لتجنب التضخم عن طريق تثبيت سعر الصرف، وإنشاء البنية التحتية التقنية والإطار التنظيمي للقطاع المصرفي العراقي. وأنشأت مزاد العملة الذي شجعته وزارة الخزانة الأمريكية بمساعدة الأمم المتحدة.
بعدها تم إنشاء “صندوق تنمية العراق” لإدارة الأنشطة الاقتصادية للعراق وتعاملاته النقدية، وتدريجيًا تم تخفيض الأدوار التي يقوم بها صندوق تنمية العراق إلى أن يصبح حساب وريث يقوم بجمع عائدات تصدير النفط العراقي. كما أنشأت سلطة الائتلاف المؤقتة المصرف العراقي للتجارة TBI في تموز 2003 لإنشاء نظام ائتمان تجاري لتمكين التجارة وكان المصرف يدار بعد ذلك من قبل مجموعة من البنوك الدولية بقيادة جيه بي مورغان، وكانت خطابات الاعتماد الصادرة عن البنك مضمونة من قبل الولايات المتحدة، إلى أن تم إصدار العملة النقدية الجديدة الوطنية في العراق. وكان هدف وزارة الخزانة الأمريكية من إلحاق الأموال العراقية المودعة من مبيعات النفط هو: المساعدة الاقتصادية وإعادة الإعمار، والتنظيم والرقابة المالية، وتطوير العلاقات الدبلوماسية، إلى جانب تخفيف الديون الدولية وتوجيه الدعم المالي الدولي إلى العراق، ومن ثم فرض العقوبات والقيود المالية على الأطراف المعادية للولايات المتحدة.
يعتمد العراق، وهو بلد غني باحتياطيات النفط ويخضع لعملية إعادة الإعمار بعد الصراع والحروب، بشكل كبير على التجارة الدولية والمعاملات المالية لدعم اقتصاده. لقد كان الدولار الأمريكي تقليديًا العملة المهيمنة في التجارة العالمية، بما في ذلك المعاملات النفطية، مما يجعله حاسمًا لاستقرار العراق الاقتصادي والتفاعلات المالية الدولية. وكدولة تعتمد بشكل كبير على التجارة العالمية والتعاملات بالعملة الأجنبية، أثار قرار العراق بتنظيم استخدام الدولار الأمريكي، وخاصة في قطاعه المصرفي، جدلاً محليًا واهتمامًا دوليًا.
بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بتقييد توريد الدولار إلى العراق في تشرين الثاني 2022 وفقًا لسياسة وزارة الخزانة الأمريكية. فمنذ سنوات تطالب وزارة الخزانة من الحكومة العراقية الالتزام بنظام التقديم الإلكتروني الذي من شأنه أن يسمح بالشفافية في التعاملات بالدولار ويحد من عمليات غسيل الأموال وتهريب الدولارات إلى دول أخرى. ونتيجة لهذه الإجراءات التقييدية، تم رفض ما يقرب من 80% من طلبات تحويل الدولار في العراق. على إثرها ونتيجة لذلك، تراجعت قيمة الدينار في سوق الصرف الأجنبي نهاية كانون الثاني 2023 حيث وصل سعر الدولار الواحد إلى 1650 دينارًا بفارق 17% عن السعر الرسمي المثبت من قبل البنك المركزي العراقي.
كان للارتفاع المفاجئ في سعر الدولار مقابل الدينار، الناجم عن السياسة التقييدية لبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، آثار اقتصادية فورية على الاقتصاد العراقي من خلال تراجع النشاط التجاري، وزيادة التضخم على السلع المستوردة، إضافة إلى ارتفاع التوترات الاجتماعية والاضطرابات وضعف ثقة الجمهور بالنظام السياسي. وفي حقيقة الأمر، فإن تداعيات وعواقب تلك الأزمة المالية تمثل الأخطر منذ عام 2003 والتي تتجاوز الاقتصاد إلى أبعاد أخرى.
ونتيجة لتلك الضغوط النقدية والمالية، أطلق البنك المركزي العراقي منصة إلكترونية لمزاد العملة، وبدأت تدريجيًا تلك المنصة تعمل بانتظام خصوصًا وأن أغلب الموردين في بادئ الأمر رفضوا استخدامها كونهم لا يرغبون في التعريف عن أنفسهم أو عن عملائهم. وفي الوقت نفسه، شددت وزارة المالية إجراءات التحقق من صحة وثائق الاستيراد، والتي تتطلب إثبات صحة وجودة البضائع المستوردة وفرض عقوبات على البنوك والوسطاء الذين لا يصدرون خطابات اعتماد أو بيانات شفافة عن التحويلات. ومن المؤكد أن هذا التشديد في السياسة النقدية الأمريكية تجاه العراق يشكل حافزًا للترشيد المالي والاقتصاد، فهو يعمل على إنهاء الصورة غير النظامية في ممارسة الأعمال، وبالنتيجة، الوصول إلى الأسواق غير الرسمية، والتدقيق في طبيعة المنتجات الداخلة إلى العراق، إلى جانب تعظيم إيرادات الدولة العراقية بالموارد المالية من الرسوم الدقيقة والتطبيق السليم للتعريفات الكمركية، والسيطرة على الحدود.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هذه القيود جزءًا من جهود أوسع لتعزيز الشفافية والمساءلة داخل القطاع المصرفي العراقي. ومن خلال فرض قيود على استخدام الدولار الأمريكي، سعت الحكومة العراقية إلى ممارسة سيطرة أكبر على بنيتها التحتية المالية مع معالجة المخاوف بشأن إساءة استخدام الأموال وضمان الامتثال للمعايير المصرفية الدولية. إذ نفذ البنك المركزي العراقي إجراءات لمنع العديد من البنوك العراقية من التعامل بالدولار الأمريكي بسبب المخاوف بشأن الامتثال للوائح المالية الدولية وغسل الأموال والارتباطات المحتملة بالأنشطة غير المشروعة. والتي تهدف إلى تعزيز سلامة النظام المالي العراقي ومواءمته بشكل أوثق مع المعايير العالمية وتقليل التعرض للمخاطر المرتبطة بالتدفقات المالية غير المشروعة.
لم يكن قرار الحد من استخدام الدولار الأمريكي من قبل البنوك العراقية خاليًا من التحديات. فمن بين الاعتبارات التي وضعت بالنسبة للتعاملات المالية الدولية للعراق بالنسبة للأنشطة التابعة للقطاع الخاص هو استخدام نظام بنوك المراسلة من خلالها تحويل الأموال العراقية إلى تلك البنوك التي مقرها في عمان ودبي وتقوم بإجراء التحويلات المالية إلى الأطراف التجارية من خلال شراء الدولار من العراق وتسوية تعاملاته المالية بدلاً من البنوك العراقية الوطنية الخاصة. وهذا الأمر يرى فيه البعض عملية تقود إلى كشف الأرصدة المالية للعراق والاستفادة من عملة الدولار بدلاً من خلق فرص اقتصادية محلية تسهم في خلق فرص عمل بالنسبة للسوق العراقي.
لذلك، يجد المنتقدون أن مثل هذه الإجراءات يمكن أن تعيق قدرة العراق على إجراء معاملات دولية سلسة، مما قد يؤثر على التدفقات التجارية والاستثمار الأجنبي. علاوة على ذلك، هناك مخاوف بشأن التداعيات العملية على الشركات والأفراد الذين اعتادوا على استخدام الدولار الأمريكي في أنشطتهم المالية اليومية.
بالنظر إلى تلك المخاطر، سيتعين على البنك المركزي العراقي اتباع إجراءات تحوطية تبعد القدرة التأثيرية العالية للقرارات التي تتخذها الأطراف الدولية في استخدام النقد المحلي، خصوصًا، وأن هناك أنباء عن منع البنك المركزي العراقي من قبل الفيدرالي الأمريكي من استخدام عملة اليوان الصيني في التحويلات النقدية، مما استدعى استيضاح البنك المركزي من واشنطن حول إمكانية استخدام اليوان، وتخفيف الحظر على المصارف الأهلية التي تعرضت لحظر أنشطتها باستخدام الدولار الأمريكي… جملة الأمور تلك تستدعي النظر إلى المستقبل، فإن مستقبل سياسات العراق فيما يتعلق بالدولار الأمريكي لا يزال غير مؤكد ولكنه موضوع محوري للاقتصاد العراقي. يتعين على البلاد أن توازن بين أهدافها المتمثلة في الاستقلال المالي والامتثال التنظيمي مع الجوانب العملية للتجارة الدولية والتكامل الاقتصادي. ومن المرجح أن تشكل الإصلاحات المستمرة في القطاع المصرفي، إلى جانب الجهود المبذولة لتعزيز الشفافية ومكافحة الجرائم المالية، نهجًا يحصن العراق في استخدام العملة في السنوات القادمة. ولكن هذا الأمر يبقى يحتاج إلى خطوات إضافية ومسارات أخرى، صحيح أن العراق يسعى إلى تنظيم استخدام الدولار الأمريكي من قبل بنوكه ويعكس أولوياته الاقتصادية المتطورة وطموحاته التنظيمية في المرحلة الراهنة.
ويمكن للعراق تفادي السياسات التي تؤدي إلى إرباك الأوضاع الاقتصادية والتي تتعلق باستخدام الدولار من خلال البحث عن بدائل للاعتماد على الدولار الأمريكي، إذ يمكن التفكير في استخدام عملات أخرى أو التعامل بالعملات المحلية في التجارة الخارجية مما يقلل من الاعتماد على الدولار. وبما أن العراق يعتمد بشدة على التجارة الخارجية، وخصوصًا مع الأطراف الدولية في شرق آسيا، فهناك حاجة ضرورية إلى تعزيز أنماط اقتصادية جديدة من التعاون مع تلك الدول التي تحظى بعلاقات جيدة مع العراق، والتفاوض على تبادل التجارة بعملات محلية أو عملات أخرى غير الدولار.
إلى جانب ذلك، هناك حاجة إلى تنويع قنوات التمويل والبنوك، والبحث عن بنوك وقنوات تمويل تسمح بالتعامل بالعملات الأخرى بدلاً من الدولار الأمريكي. وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية من خلال تطوير الصناعات المحلية والقطاعات الاقتصادية المتنوعة التي تسهم في الاكتفاء الذاتي الذي قد يساهم في تقليل الاعتماد على الاستيرادات التي تتطلب الدولار.
العراق بحاجة إلى تطوير مناهج التفاوض والدبلوماسية الاقتصادية للتفاوض مع الولايات المتحدة والبحث عن تسوية أو استثناءات للعقوبات، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات التي تخدم مصالح الاقتصاد العراقي العامة دون أن تستدعي رد الفعل السلبي من قبل الولايات المتحدة، فهناك حاجة إلى بلورة صورة عن الضرر الذي يلحق بالاقتصاد العراقي وبالتحديد بالقطاع الخاص الناشئ بفعل السياسات التقييدية التي يتبعها الفيدرالي الأمريكي وهي بالمحصلة تعتمد أسلوب الصدمة. كما سيكون من بين الاعتبارات الأساسية التركيز على الاستثمار في البنية التحتية المالية وتطوير البنية التحتية المالية المحلية لدعم التعاملات بالعملات المحلية والبنوك المحلية. وفي المحصلة، فإن تفادي السياسات التقييدية للخزانة الأمريكية يتطلب استراتيجيات متعددة وتعاونًا دوليًا.